مرفق القضاء أجل مرافق الدولة قدراً ، وأعظمها خطراً ، به يرفع التهارج ،
وترد النوائب ، وتقطع الخصومات ، ويؤمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وهو ركن
من أركان الشريعة بل هو أسها ، ورئيس العلوم الإسلامية بل هو رأسها ، القائمون
من البشر بحقه هم رسل الله ، وهو في هذه الملة رسول الله (ص)، ومن بعده الخلفاء
الراشدون ، ثم صار يختار لهذا المنصب من القضاة الأئمة المهتدون ؛ إذ عليهم مدار
الأحكام ، وإليهم النظر في جميع وجوه القضاء ، من القليل والكثير بلا تحديد ، وقد
ألف الناس في طرائقه وآدابه قديماً وحديثاً ؛ وسار العلماء في تبيين أصوله وقواعده
سيراً حثيثاً ، ما بين ناثر مطنب وموجز ، وناظم قصيدة ، أو مرتجز( ١) ، فقالوا : إن
على القاضي أن يوازي بين الخصمين إذا تقدما إليه ، ويحاذي بينهما في الجلوس بين
يديه ، ويقسم لهما أقساماً متماثلة من نظره ، وأقساطاً متعادلة من كلمه ؛ فإنه مقام
توازن الأقدام ، وتكافؤ الخواص والعوام ، لا يقبل على ذي هيئة لهيئته ، ولا يعرض
عن دميم لدمامته ، ولا يزيد شريفاً على مشروف، ولا قوياً على مضعوف ، ولا قريباً
على أجنبي ، ولا مسلماً على ذمي ، ما جمعهما التخاصم ، وضمهما التحاكم ،
ومن أحس منه بنقصان بيان ، أو عجزٍ عن برهان ، أو قصورٍ في علم ، أو تأخر في
فهم ، صبر عليه حتى يستنبط ما عنده، ويستشق ضميره ، وينقع بالإقناع غلته ،
ويزيح بالإيضاح علته ، ومن أحس منه بلسن وعبارة ، وفضل من بلاغة ، أعمل فيما
يسمعه منه فكره ، وأحضره ذهنه ، وقابله بسد خلة خصمه ، والإبانة لكل منهما
عن صاحبه ، ثم سلط على أقوالهما ودعاويهما تأمله ، وأوقع على بيناتهما
وحججهما تدبره ، وأنفذ حينئذ الحكومة إنفاذ اً يعلمان به أن الحق مستقر مقره ، وأن
.( الحكم موضوع موضعه ؛ فلا يبقى للمحكوم عليه استرابة ولا للمحكوم له استزادة ( ١
فإذا كان القضاء بهذه الأهمية وهذه الخطورة ، والقاضي مأمور بما ذكر وزيادة ،
فهل يعقل أن يقال : يمكن أن تغني عنه هذه الجمادات؟ ولو كانت وسائل إلكترونية
تعتمد تراتيب منطقية ، ومعادلات رياضية ، يستظهر بها حجج الخصوم وبيناتهم ،
وتستنطق بها الأمارات والقرائن للدلالة على الحق ، ولا تقف عند مجرد ظ واهر البينات
والأحوال .
إن تلك الوسائل الإلكترونية تخرج نتائجها وفقاً لل تراتيب المنطقية التي وضعت
لها عند برمجتها ، وليس بوسعها النظر إلى أمور غير ظاه رة ، تحتاج إلى مزيد تأمل
وتفكر .
ولا يقال بأن ما ذكر هو في الخصومات المعقدة والمتشعبة ، التي يكثر فيها
أطرافها ، وتتعارض بيناتها ، بخلاف القضايا البسيطة التي يمكن معالجتها وإصدار
حكم إلكتروني فيها ، حيث يجاب عن هذا بأن القضايا البسيطة في نظر البعض هي
كبيرة في نظر البعض الآخر ، إضافة إلى أن الأحكام التي تصدرها تلك البرامج
والوسائل الإلكترونية ، كالغرامات المالية ، قد تكون زهيدة في نظر البعض لكنها
مكلفة وفاحشة في نظر الآخ رين ، والقاضي مأمور بمراعاة أحوال الناس والمصالح
العامة والخاصة ، فتلك الغرامات والتعزيرات المالية والبدنية ، ليست مرادة بذاتها ،
وإنما الهدف منها هو الإصلاح وحفظ النظام العام في المجتمع ، وهذه أمور تقديرية لا
يدركها إلا القاضي ، ولا يمكن إدراكها بمعادلات رياضية ، تؤدي إلى نتائج منطقية
تتفق مع معطياتها .
وأما ما يتعلق ببعد هذه الوسائل الإلكترونية عن تهمة الرشوة ، وعدم إمكانية
التلاعب بعواطفها ، فيجاب عن ذلك بأنه يمكن التلاعب بتلك البرامج إذا عرفت
طريقة برمجتها ، وكيفية وصولها لتلك النتائج ، بإدخال معلومات ومعطيات مغلوطة
للوصول إلى النتيجة المرادة ، وبالتالي تفقد هذه البرامج هذه الميزة لها عن القاضي
البشري .
لذلك قالوا بأن هذه الوسائل الإلكترونية ليس المقصود منها أن تحل محل
القضاة الحقيقيين ، وإنما الغاية منها إعانة القضاة في أعمالهم ، وتمكينهم من سرعة
البت في القضايا الواضحة التي لا تحتاج إلى إعمال فكر ؛ ولذلك لو اختلفت النتيجة
التي انتهت إليها تلك الوسائل الإلكترونية ، عن النتيجة التي توصل إليها القاضي ،
فإن له الإعراض عن تلك الوسائل ، والحكم بما أدى إليه اجتهاده.
ومن ثم تكون هذه الوسائل الإلكترونية معينة للقاضي ، وتسميتها بالقاضي
الإلكتروني من باب التجوز ، لكون عملها يشبه عمل القاضي من حيث الاطلاع
على ال وقائع ، ثم إخراج النتيجة مسببة ، ومن المعلوم أن الذرائع والوسائل يغتفر فيها
ما لا يغتفر في المقاصد ، والعبرة بالمقاصد في الأحكام ما لم تكن الذريعة في أصلها
محرمة .
ومن الفوائد التي يمكن تحصيلها من تلك الوسائل الإلكترونية أنها قد تذكر
القاضي بأمور قد غفل عنها أثناء نظر القضية ، إما بسبب تشويش الخصوم ، أو
كثرة القضايا المنظورة أمامه ، كما أنها تعين القاضي في كتابة الأحكام ولاسيما في
القضية المتكررة ، والتي لا تحتاج إلى إضافة شيء جديد.
وقد قال ابن القيم في بحثه لمسألة حكم الوسائل والذرائع : ( الرابع : وسيلة
موضوعة للمباح ، وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها ، ……
فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه ، أو إيجابه بحسب درجاته في
المصلحة ) ( ١) ، وهذه الوسائل الإلكترونية القصد من إيجادها إعانة القاضي للوص ول
إلى الحق في القضايا المنظورة أمامه ، وهذا من أعظم المقاصد وأشرفها ، فتأخذ هذه
الوسائل الإلكترونية حكم المقصد الذي وضعت من أجله ، وليس في استخدامها أمر
محرم ، ما لم يؤد استخدامها إلى اعتماد القضاة عليها وعلى مخرجاتها دون تحقيق
وتمحيص ، وثم تكون هذه الوسائل هي القاضي الحقيقي ، ما يخرجها عن الهدف
الذي وجدت من أجله .
Commentaires
Enregistrer un commentaire