سجلات القاضي الالكترونية


إن للتدوين أهمية كبيرة في باب القضاء ، لما فيه من إعانة للقاضي في الوصول

إلى الحق ، وضبط القضايا ، والفصل فيها على الوجه الذي يتم به حفظ الحقوق ورد

المظالم .

وقد عرف القضاة المسلمون في وقت مبكر فكرة التدوين في العمل القضائي،

فأول من نقل عنه تدوين الخصومات والقضايا هو سليم بن عتر التجيبي( ١) ، حيث

اختصم إليه قوم في ميراث ، ثم تناكروا ، فعادوا إليه ، فقضى بينهم وكتب كتاب اً

بقضائه ، وأشهد فيه شيوخ الجند ، فكان أول من سجل قضاءه( ٢) ، وكان ذلك في

العهد الأموي حيث لم تكن الحاجة قائمة قبل ذلك ؛ نظر اً لما كان بالناس من

التناصف ، حيث كان المتقاضيان في صدر
الإسلام أشبه بالمستفتين ، فمن ظهر عليه

الحق قنع به ، وسارع في تنفيذه .

وممن نقل عنهم أنهم كانوا من أول من كتبوا أقضيتهم ابن شبرمة( ١) حين

حدث عن نفسه قائلاً : ( ثلاث لم يعمل بهن أحد قبلي ولن يتركهن أحد بعدي :

المسألة عن الشهود ، وإثبات حجج الخصمين ، وتحلية الشهود في المسألة ) .

فالحقيقة أن التجيبي قد سبقهم في ذلك ، ولعل مرادهم أنهم أول من كتبوا في

مناطقهم .

وصور التدوين القضائي متعددة ومختلفة ، وقد حصر بعضهم الإثبات

:( بالكتابة في : الصك ، والسجل والمحضر ، والحجة ، والوثيقة ( ٢

فالمحضر : هو الذي يكتب فيه قصة المتحاكمين عند حضورهما مجلس الحكم،

وما جرى بينهما ، وما أظهر كل واحد منهما من حجة ، من غير تنفيذ ، ولا حكم

.( مقطوع به( ٣

والسجل( ٤) : هو الذي يكتب فيه جميع ما في المحضر ، ويزاد عليه تنفيذ الحكم وإمضا ؤه ، وقيده بعضهم بما كان موجهاً إلى قاض آخر ، ثم أصبح يطلق على

.( الكتاب الكبير الذي تضبط فيه واقعات الناس ( ١

الصك : الكتاب الذي تكتب فيه المعاملات ، والأقارير ، وجمعه صكوك ،

، ( قال صاحب "المبسوط" : ( الصك اسم خاص لما هو وثيقة بالحق الواجب )( ٢

وقد كانت الأرزاق تسمى صكاك اً ؛ لأنها كانت تخرج مكتوبة ؛ حيث كان الأمراء

. ( يكتبون للناس بأرزاقهم وأعطياتهم كتباً لقبضها( ٣

الحجة : من ( الحَْج ) وهو القصد ؛ وسميت بذلك لأنها تقصد وتعتمد ، أو

بها يقصد الحق المطلوب( ٤) ، وهي تطلق على السجل وعلى الوثيقة . فهي أعم ، ثم

أصبحت تطلق على السجل ، والمحضر ، والصك ، وتطلق عند متأخري الحنفية على

الورقة التي لا تحتوي حكم اً بل تحتوي على إقرار أحد الطرفين ، وتصديق الآخر ،

وختم وإمضاء القاضي الذي نظمها في رأس الحجة ، وخص الحنابلة الحجة بالحكم

.( القائم على البينة ( ٥

الوثيقة : هي أعم المصطلحات الخمسة ، فهي تشمل السجل

( والمحضر والصك ، فأصلها اللغوي يدور حول : الائتمان والقوة والإحكام( ١

، وهذه المعاني موجودة في هذه الألفاظ .

قال ابن نجيم( ٢) : ( الحجة والوثيقة متناولان الثلاثة )( ٣) ، وذلك

بحسب الاستعمال الأكثر لهذه المصطلحات ، حيث إن هذه الألفاظ متقاربة

المعنى ، والمتتبع لاستعمال الفقهاء يجد أم استعملوها مترادفة ، ومنهم من

فرق بينها بحسب أصل معناها اللغوي .

كما أن استعمالهم لهذه المصطلحات قد يتغير بحسب الأعراف ،

والأماكن والأوقات ، ولا يترتب على هذا الاختلاف أثر ؛ إذ لا مشاحة في

الاصطلاح .

والناظر في العرف الحاضر يجد أن المحضر يطلق عليه (الضبط) ، وهما

مصطلحان مترادفان ؛ ولذلك يقال أحياناً : (محضر الضبط) ويراد به ما يتم

، ( تدوينه في مجلس القاضي( ٤) ، سواء كان ذلك في المحكمة أو خارجها( ١

ويكون تدوينه تحت إشراف القاضي ، وعبر كاتب مختص يسمى (كاتب

الضبط) ، وأما السجل وهو الذي يدون فيه حكاية ملخصة للدعوى

مضافاً إليها تنفيذ الحكم وإمضا ؤه ، فأصبح يطلق عليه صك الحكم ، أو

إعلام الحكم ، ثم أصبح يطلق على صورة الصك التي تكتب بالقلم في دفتر

. ( خاص ؛ للرجوع إليها عند الحاجة ، ويسمى سجل الصك( ٢

والذي يكون من إنشاء القاضي وتحت إشرافه ، هو المحضر والسجل ، وأيا كان عرف الاستعمال لهذه المصطلحات ، فقد اختلف الفقهاء في حكم العمل بها ،

حيث اختلفوا في حكم عمل القاضي بما يجده في ديوانه من هذه الوثائق والسجلات

على قولين :

القول الأول :

قالوا إن القاضي لا يقضي بما في ديوانه ما لم يتذكره ؛ لأن الخطوط تتشابه،

وهي مما يزور ويفتعل ، وبناء على هذا القول يكون قضاء القاضي بما في ديوانه إذا

تذكره ، قضاء بعلمه لا بما في ديوانه .

وقد ذهب إلى هذا الإمام أبو حنيفة( ١) وقول عند المالكية ، ونقل عن الإمام

، ( مالك ( ٢) ، ورواية عند الحنابلة هي المذهب ( ٣) ، وأصح الوجهين عند الشافعية ( ٤

وقال به الشافعي ، حيث جاء في "الأم" : ( وإذا وجد القاضي في ديوانه خط اً لا

يشك أنه خطه أو خط كاتبه بإقرار رجل لآخر ، أو بثبت حق عليه بوجه لم يكن له

أن يقضي به حتى يذكر منه أو يشهد به عنده ، كما لا يجوز إذا عرف خطه ولم

يذكر الشهادة أن يشهد ) ( ٥) ، وقال في موضع آخر : ( ولا يقبل من ذلك ولا مما

.( وجد في ديوانه إلا ما حفظ ؛ لأنه قد يطرح في الديوان ويشبه الخط الخط ) ( ٦

القول الثاني :

قالوا يجوز للقاضي أن يعمل بما في ديوانه ، ولو لم يتذكره ؛ لأن وجود هذه

الوثائق لديه دليل على صحتها وبعدها عن التحريف والتزوير ، ولعجز القاضي عن

حفظ جميع الحوادث ، ثم إنه قد فعل من الاحتياط بالخط والختم والحفظ غاية ما في وسعه ، فلو لم يعمل به لضاعت الحقوق ، ولبطلت الأحكام ، ولما احتاج إلى ما

فعله من الاحتياط .

قال بهذا أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن من الحنفية ( ١) ، وهو

القول الأصح عند المالكية( ٢) ، ووجه عند الشافعية( ٣) ، والرواية الثانية

. ( عند الحنابلة ، وذكر صاحب "الإنصاف " : أن عليها العمل ( ٤

ومن أق والهم في هذه المسألة يتضح لنا أن سبب خلافهم في حكم العمل

بسجلات القاضي التي يجدها في ديوانه ، هو إمكانية تزوير هذه السجلات ، ووجود

شبهة تشابه الخطوط ، بحيث يظن القاضي أن هذا الصك أو السجل صدر منه ،

اعتقاد اً منه أن الخط الذي كتب به الصك أو السجل أو العلامات أو التواقيع

الموجودة فيها خطه ، وهو في الحقيقة لم يصدره ، وكاتب تلك العلامات والتواقيع

غيره ، وهذه الشبه غير موجودة في الكتابة الإلكترونية ، التي يستوي فيها الجميع ،

ولا يمكن تمييز الكاتب لهذه الكتابة الإلكترونية من شكل الخط ، ومن ثم تبقى

الإشكالية الأولى وهي إمكانية تعرض سجلات القاضي للتحريف والتزوير ، وقد كان

في السابق يستدل على عدم تعرضها للتزوير بحفظها لدى القاضي ، أو أمينه عليها ، حيث كانت تحفظ في دار القاضي ، يحضرها معه عند جلوسه للقضاء ، ثم يعود بها

عند انتهائه من عمله القضائي اليومي( ١) ، وقيل إن أول من نقل دواوين الحكم إلى

الجامع ابن أبي العوام( ٢) ، ومن ثم تكفل بحفظها أعوان القاضي ، وهذا هو ما عليه

العمل القضائي في وقتنا الحاضر ، فإن المتعهد بحفظها قبل الفصل في الدعوى ، هم

أعوان القاضي الذين في مكتبه ، وأما المتعهد بحفظها بعد الفصل فيها هم العاملون

بما يعرف اليوم بقسم الأرشيف ، والذين لديهم الآليات والإمكانات اللازمة لحفظ

ملفات القضايا ، إلا أن الكتابة والأرشفة في الدعوى الإلكترونية إلكترونيان ، فهل

حفظ السجلات الإلكترونية في الأرشيف الإلكتروني يجعلها بعيدة عن التحريف

والتعديل ، بحيث يمكن التعويل عليها ؟



Commentaires